فصل: تفسير الآيات (14- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (14- 16):

{بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)}
{بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} قال عكرمة، ومقاتل، والكلبي: معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله، وهي سمعه وبصره وجوارحه ودخل الهاء في البصيرة لأن المراد بالإنسان هاهنا جوارحه، ويحتمل أن يكون معناه {بل الإنسان على نفسه بصيرة} يعني: لجوارحه، فحذف حرف الجر كقوله: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم} [البقرة – 233] أي لأولادكم. ويجوز أن يكون نعتًا لاسم مؤنث أي بل الإنسان على نفسه عين بصيرة.
وقال أبو العالية، وعطاء: بل الإنسان على نفسه شاهد، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والهاء في {بصيرة} للمبالغة، دليل هذا التأويل. قوله عز وجل: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا} [الإسراء- 14]. {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} يعني يشهد عليه الشاهد ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه، كما قال تعالى: {يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم} [غافر- 52] وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وعطاء: قال الفراء: ولو اعتذر فعليه من نفسه من يكذب عذره ومعنى الإلقاء: القول، كما قال: {وألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون} [النحل- 86]. وقال الضحاك والسدي: {ولو ألقى معاذيره} يعني: ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب. وأهل اليمن يسمون الستر: معذارًا، وجمعه: معاذير، ومعناه على هذا القول: وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه. قوله عز وجل: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي كان ربما يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه، فأنزل الله عز وجل الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة: {لا تحرك به لسانك لتعجل به}.

.تفسير الآيات (17- 23):

{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال علينا أن نجمعه في صدرك، وقرآنه. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فإذا أنزلناه فاستمع. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} علينا أن نبينه بلسانك. قال: فكان إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل، ورواه محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن موسى بن أبي عائشة بهذا الإسناد وقال: كان يحرك شفتيه إذا نزل عليه، يخشى أن ينفلت منه، فقيل له: {لا تحرك به لسانك} {إن علينا جمعه} أن نجمعه في صدرك {وقرآنه} أن تقرأه. {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} قرأ أهل المدينة والكوفة {تحبون} {وتذرون} بالتاء فيهما، وقرأ الآخرون بالياء أي يختارون الدنيا على العقبى، ويعملون لها، يعني: كفار مكة، ومن قرأ بالتاء فعلى تقدير: قل لهم يا محمد: بل تحبون وتذرون {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يعني يوم القيامة {نَاضِرَةٌ} قال ابن عباس: حسنة، وقال مجاهد: مسرورة. وقال ابن زيد: ناعمة. وقال مقاتل: بيض يعلوها النور. وقال السدي: مضيئة. وقال يمان: مسفرة. وقال الفراء: مشرقة بالنعيم يقال: نضر الله وجهه ينضر نضرًا، ونضَّره الله وأنضره ونضُر وجهُه ينضُر نُضْرةً ونَضَارة. قال الله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} [المطففين- 24] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال ابن عباس: وأكثر الناس تنظر إلى ربها عيانًا بلا حجاب. قال الحسن: تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق.
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي، أخبرنا عبد الله بن أحمد الحموي، أخبرنا إبراهيم بن خزيم الشاشي، أخبرنا عبد بن حميد، حدثنا شبابة، عن إسرائيل، عن ثوير قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لَمَنْ ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة».

.تفسير الآيات (24- 28):

{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)}
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} عابسة كالحة مغبرة مسودة. {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} تستيقن أن يعمل بها عظيمة من العذاب، والفاقرة: الداهية العظيمة، والأمر الشديد يكسر فقار الظهر. قال سعيد بن المسيب: قاصمة الظهر. قال ابن زيد: هي دخول النار. وقال الكلبي: هي أن تحجب عن رؤية الرب عز وجل. {كَلا إِذَا بَلَغَتِ} يعني النفس، كناية عن غير مذكور {التَّرَاقِيَ} فحشرج بها عند الموت، و{التراقي} جمع الترقوة، وهي العظام بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشراف على الموت. {وَقِيلَ} أي قال من حضره الموت هل {من راق} هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه برقيته أو دوائه.
وقال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا.
وقال سليمان التيمي، ومقاتل بن سليمان: هذا من قول الملائكة، يقول بعضهم لبعض: من يرقى بروحه؟ فتصعد بها ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب. {وَظَن} أيقن الذين بلغت روحه التراقي {أَنَّهُ الْفِرَاقُ} من الدنيا.

.تفسير الآيات (29- 35):

{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)}
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال قتادة: الشدة بالشدة. وقال عطاء: شدة الموت بشدة الآخرة. وقال سعيد بن جبير: تتابعت عليه الشدائد، وقال السدي: لا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه.
قال ابن عباس: أمر الدنيا بأمر الآخرة، فكان في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة.
وقال مجاهد: اجتمع فيه الحياة والموت.
وقال الضحاك: الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه.
وقال الحسن: هما ساقاه إذا التفَّتَا في الكفن. وقال الشعبي: هما ساقاه عند الموت. {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أي مرجع العباد يومئذ إلى الله يساقون إليه. {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} يعني: أبا جهل، لم يصدِّق بالقرآن ولا صلى لله. {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} عن الإيمان. {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ} رجع إليهم {يَتَمَطَّى} يتبختر ويختال في مشيته، وقيل: أصله: يتمطط أي: يتمدد، والمَطُّ هو المَد. {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} هذا وعيد على وعيد من الله عز وجل لأبي جهل، وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد.
وقال بعض العلماء: معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحق وأولى به، يقال للرجل يصيبه مكروه يستوجبه.
وقيل: هي كلمة تقولها العرب لمن قاربه المكروه وأصلها من الولاء من المولى وهو القرب، قال الله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} [التوبة- 123].
وقال قتادة: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} فقال أبو جهل: أتوعدني يا محمد؟ والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا، وإني لأعزّ من مشى بين جبليها! فلما كان يوم بدر صرعه الله شر مصرع، وقتله أسوأ قتلة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل.

.تفسير الآيات (36- 40):

{أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}
{أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} هملا لا يؤمر ولا ينهى، وقال السدي: معناه المهمل وإبل سدى إذا كانت ترعى حيث شاءت بلا راع. {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} تُصَبُّ في الرحم، قرأ حفص عن عاصم {يمنى} بالياء، وهي قراءة الحسن، وقرأ الآخرون بالتاء، لأجل النطفة. {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} فجعل فيه الروح فسوى خلقه. {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى} خلق من مائه أولادًا ذكورًا وإناثًا. {أَلَيْسَ ذَلِكَ} الذي فعل هذا {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}.
أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني، أخبرنا أبو عمرو القاسم بن جعفر الهاشمي، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلؤي، حدثنا أبو داود سليمان بن أشعث، حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، حدثني إسماعيل بن أمية قال: سمعت أعرابيًا يقول سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين- 8] فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ: {لا أقسم بيوم القيامة} فانتهى إلى {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} فليقل: بلى، ومن قرأ: {والمرسلات} فبلغ {فبأي حديث بعده يؤمنون} فليقل: آمنا بالله».
أخبرنا عمر بن عبد العزيز، أخبرنا القاسم بن جعفر، أخبرنا أبو علي اللؤلؤي، أخبرنا أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ: {أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى} قال: سبحانك بلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

.سورة الإنسان:

قال عطاء: هي مكية وقال مجاهد وقتادة: مدنية وقال الحسن وعكرمة: هي مدنية إلا آية وهي قوله: {فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا}.

.تفسير الآيات (1- 2):

{هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)}
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ} يعني آدم عليه السلام {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} أربعون سنة ملقى من طين بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، يريد: كان شيئًا ولم يكن مذكورًا، وذلك من حين خلقه من طين إلى أن ينفخ فيه الروح.
روي أن عمر سمع رجلا يقرأ هذه الآية: {لم يكن شيئًا مذكورًا} فقال عمر: ليتها تمت، يريد: ليته بقي على ما كان قال ابن عباس: ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة. {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ} يعني ولد آدم {مِنْ نُطْفَةٍ} يعني: مَنْي الرجل ومني المرأة.
{أَمْشَاجٍ} أخلاط، واحدها: مَشْجٌ ومَشِيْجٌ، مثل خدن وخدين.
قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد والربيع: يعني ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد، فماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له، وما كان من عصب وعظم فهو من نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة.
وقال الضحاك: أراد بالأمشاج اختلاف ألوان النطفة، فنطفة الرجل بيضاء وحمراء وصفراء، ونطفة المرأة خضراء وحمراء وصفراء وهي رواية الوالبي عن ابن عباس. وكذلك قال الكلبي: قال: الأمشاج البياض في الحمرة والصفرة. وقال يمان: كل لونين اختلطا فهو أمشاج. وقال ابن مسعود: هي العروق التي تكون في النطفة.
وقال الحسن: نطفة مشجت بدم، وهو دم الحيضة، فإذا حبلت ارتفع الحيض.
وقال قتادة: هي أطوار الخلق نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظمًا ثم يكسوه لحمًا ثم ينشئه خلقا آخر.
{نَبْتَلِيهِ} نختبره بالأمر والنهي {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} قال بعض أهل العربية: فيه تقديم وتأخير، مجازه فجعلناه سميعًا بصيرًا لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة.

.تفسير الآيات (3- 4):

{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا (4)}
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة، وعرَّفناه طريق الخير والشر {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} إما مؤمنا سعيدا وإما كافرا شقيا. وقيل: معنى الكلام الجزاء، يعني: بيَّنا له الطريق إن شكر أو كفر. ثم بيَّن ما للفريقين فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ} يعني: في جهنم قرأ أهل المدينة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {سلاسلا} و{قواريرًا} فقوارير بالألف في الوقف، وبالتنوين في الوصل فيهن جميعا، وقرأ حمزة ويعقوب بلا ألف في الوقف، ولا تنوين في الوصل فيهن، وقرأ ابن كثير {قوارير} الأولى بالألف في الوقف وبالتنوين في الوصل، و{سلاسل} و{قوارير} الثانية بلا ألف ولا تنوين وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص {سلاسلا} و{قواريرا} الأولى بالألف في الوقف على الخط وبغير تنوين في الوصل، و{قوارير} الثانية بغير ألف ولا تنوين. قوله: {وَأَغْلالا} يعني: في أيديهم، تغل إلى أعناقهم {وَسَعِيرًا} وقودًا شديدًا.

.تفسير الآيات (5- 8):

{إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)}
{إِنَّ الأبْرَارَ} يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، واحدهم بار، مثل: شاهد وأشهاد، وناصر وأنصار، وبر أيضا مثل: نهر وأنهار {يَشْرَبُونَ} في الآخرة، {مِنْ كَأْسٍ} فيها شراب {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. قال عكرمة: {مزاجها} طعمها، وقال أهل المعاني: أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده، لأن الكافور لا يشرب، وهو كقوله: {حتى إذا جعله نارا} [الكهف- 96] أي كنار. وهذا معنى قول قتادة ومجاهد: يمازجه ريح الكافور. وقال ابن كيسان: طيبت بالكافور والمسك والزنجبيل. وقال عطاء والكلبي: الكافور اسم لعين ماء في الجنة. {عَيْنًا} نصب تبعًا للكافور. وقيل: هو نصب على المدح. وقيل: أعني عينا. وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى من عين {يَشْرَبُ بِهَا} قيل: يشربها والباء صلة وقيل بها أي منها {عِبَادَ اللَّهِ} قال ابن عباس أولياء الله {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} أي يقودونها حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم، كمن يكون له نهر يفجره هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد. {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} هذا من صفاتهم في الدنيا أي كانوا في الدنيا كذلك.
قال قتادة: أراد يوفون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة، وغيرها من الواجبات ومعنى النذر: الإيجاب.
وقال مجاهد وعكرمة: إذا نذروا في طاعة الله وفوا به.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} فاشيًا ممتدًا، يقال: استطار الصبح، إذا امتد وانتشر.
قال مقاتل: كان شره فاشيًا في السماوات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وكورت الشمس والقمر، وفزعت الملائكة، وفي الأرض: فنسفت الجبال، وغارت المياه، وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء. {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} أي على حب الطعام وقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه. وقيل: على حب الله عز وجل: {مِسْكِينًا} فقيرًا لا مال له {وَيَتِيمًا} صغيرًا لا أب له {وَأَسِيرًا} قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء: هو المسجون من أهل القبلة. وقال قتادة: أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك. وقيل: الأسير المملوك. وقيل: المرأة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان» أي أسراء.
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، قال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا.
وروى مجاهد وعطاء عن ابن عباس: أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أنه عمل ليهودي بشيء من شعير، فقبض الشعير فطحن ثلثه فجعلوا منه شيئًا ليأكلوه، فلما تمَّ إنضاجه أتى مسكين فسأل فأخرجوا إليه الطعام، ثم عمل الثلث الثاني فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين، فسأل فأطعموه، وطووا يومهم ذلك: وهذا قول الحسن وقتادة، أن الأسير كان من أهل الشرك، وفيه دليل على أن إطعام الأسارى، وإن كانوا من أهل الشرك، حسن يرجى ثوابه.